شذا

عُمرٌ لن ينفى


على مشارف المرة السادسة، أعود لقارّة المرة الأولى

لیس بالشيء الجدید أن أودع مكانًا لیستقبلني آخر. لا أدري إن كان یجدر بي أن أقول بأني اعتدت ترك الأمكنة حتى تلك التي بقیت فیها لسنوات. أو أن الإنسان لا یعتاد ویكره في كل مرة أن یغادر المكان الذي ألفه؟ وماذا إن لم یكن قد ألفه في بادئ الأمر؟

المرة السادسة في حیاتي التي أغادر فیها مسكنًا احتضن العدید من الذكریات ومن الأحداث التي أذكرها وقد لا أفعل أو لا أرید أن أفعل.

المرة الأولى لا أحمل معي منها سوى كتیب صغیر كدلیل على وجودي. المرة الثانیة ربما كنت سعیدة بالرفقة والحكایة المثیرة. المرة الثالثة خلال ثواني علمت أنه علي أن أغادر هذا المكان بالرغم من كل ما كنت أملك فیه من حكایات ولا أستطیع أن أنكر أن هذا أحد المواقف المفصلیة في حیاتي. جرح كبیر خلفه إلا أنه فتح لي أبوبًا واسعة لم تكن لتتسع لها حیاتي قبل حدوثها. في تیك المرة علمت كیف علي أن أنسى وأتعایش مع فكرة الواقع كي أستمر بخیر. تلك المرة التي وجدتني للمرة الأولى أمام خیارات محدودة من جمع أكبر قدر ممكن من الذكریات المحسوسة وأعتقد أني منذ ذلك الحین تعلمت أننا لنتقدم علینا أن نتخلى عن أجزاء منا. ما زلت أذكر تلك القصص الصغیرة المصورة لأختي وهي جزء من أیام لا تنسى تلك التي حشرتها في حقیبة كبیرة ثقیلة جداً لم تتسع ولو لعشر مما أردت في محاولة للمحافظة على الشعور بأمان الانتماء بالرغم من أني أعلم أني خسرت هذا الشعور أعوامًا قبل هذه الحادثة. وهكذا أدركت أن علینا أحیانًا أن نسیر مخففین من تلك الأحمال كي نتمكن من الاستمرار. كل شيء سیبقى في أنفسنا بلا شك لكن دفع نفسك للأمام والاستمرار في لحظاتك الحاضرة قدر الإمكان والانغماس فیما تحب قدر ما تستطیع سیعین. لا بد أن یعینك. المرة الرابعة فرج وفصل جدید كانت مغادرة استحقت العناء. المرة الخامسة حكایة أخرى مع صدیق عزیز أقرب من النفس إلي.

المرة السادسة الآن. سعینا لهذه المرة أنا وصدیقي بكل ما أوتینا فاستجاب االله.

تبقى فكرة الانتهاء من الصفحة للانتقال لمكان آخر لتبني حكایات مختلفة تمامًا وجدیدة فكرة مربكة بالرغم من رغبة الإنسان بها وسعیه لسنوات من أجلها.

ما یزال لیس من الیسیر أن تترك ما اعتدته كإنسان. أن تترك المألوف وتخرج عن الدائرة التي أصبحت مرتاحًا مطمئنًا فیها. ما زالت الفكرة مربكة ومخیفة یبقى ما یصنع الفارق هو تعاملك مع هذا النوع من المشاعر ولیس بالضرورة أن یكون هذا في كل الأوقات.

وابل من المشاعر الغريبة ونحن نعمل على التخلص من ممتلكاتنا ینقص الواحد تلو الآخر حتى الیوم القریب الذي سنغلق فیه الباب ولا نعود.

كنت أفكر كیف سأتخلص من هذا المكتب الذي أكتب فیه الآن وكم حمل من ساعات الدراسة والكتابة والتأمل. تعتریني رغبة في أحوال بالتشبث بمثل هذه الأمور لكنني وكما ذكرت أعلم أن هذا غیر ممكن وسیتلاشى الشعور كما خبا غیره مما یشابهه.

أفكر كیف أودع من أحب وكیف ألقي السلام الأخیر. أحاول جمع الذكریات مهما صغرت مع كل من أتحدث إليه أرید لكل هذا أن یبقى معي لأني أعلم أني سأتوق قریبًا جداً ربما منذ اللحظة التي أسمع فیها دعاًء ما زلت أخطئ في كلماته أحیانًا.

أعلم أن أمامي الكثیر من المراد وأني أعیش حلمًا وأن الحكایة ستكون لذیذة ومرة في أوقات وأنها غیر یسیرة أبداً لكن كل ما علینا دائمًا هو أن نمضي بنیة ونعمل بصدق كي نرى بین أیدینا وأمام أعیننا ما یزهر من كل هذا.

أرید أن أكتب لكل من أحب. ما الذي یملك أن یصنعه الكاتب لیوصل ما في نفسه أفضل من الكتابة؟ في كل مرة أبدأ بكتابة الرسائل أتراجع وأعود للنقطة الأولى لأني أعلم أنني ربما سألوم الكلمات عن تقصیرها وأشعر بأنه لا شيء یمكن أن یتحدث بصورة كاملة التفاصیل عما یحدث فّي.

على مشارف المرة السادسة أعود لقاّرة المرة الأولى.



4 ردود على “على مشارف المرة السادسة، أعود لقارّة المرة الأولى”

  1. كأنك تكتبين عني تماما. جميل شذا

    إعجاب

  2. “أعلم أن أمامي الكثیر من المراد وأني أعیش حلمًا وأن الحكایة ستكون لذیذة ومرة في أوقات وأنها غیر یسیرة أبداً لكن كل ما علینا دائمًا هو أن نمضي بنیة ونعمل بصدق كي نرى بین أیدینا وأمام أعیننا ما یزهر من كل هذا.” ✨👏🏻

    الحياة أحيانًا تستلزم منا التضحية بالغالي لتبهرنا بما هو أغلى 💫

    إعجاب

أضف تعليق

من أنا

شذا المويشير
البورد الكندي في طب أعصاب الكبار أتخصص في طب الأعصاب الطرفية والعضلات. كاتبة: صدر لي كتاب ذاتَ تبَصٌَر في عام ٢٠١٧.

بودكاست عزلة
الكتابة، الترجمة، السفر،التعلم و التعليم الطبي

رسائل إخبارية